إضاءة على قصة انتقال نخيل البرحي إلى القصيم قبل انتشاره عالميا
لُقِّب للذة طعمه بـ«مارون غلاسيه» البصرة
نخلة البرحي («الشرق الأوسط»)
أكسفورد: يعقوب الإبراهيم
النخلة نبتة مباركة ورد ذكرها في القرآن الكريم 17 مرة، وولدت تحتها حسب نصه الحق مريم بنت عمران، فهي مهد السيد المسيح (عليه السلام) ومصدر قوته وكني بها «أبو نخلة». ونصح رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بحديثه الشريف: «أطعموا نساءكم في نفاسهن التمر فإن من كان في طعامها في نفاسها خرج ولدها حليما، فهو طعام مريم حين ولدت، ولو علم الله طعاما غير ذلك لأطعمها». وقوله صلى الله عليه واله وسلم لأصحابه: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم حدثوني ما هي؟ فقالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: النخلة». وفي الأثر الشريف أيضا: «إن التمر يذهب الداء ولا داء فيه»، وأوصى صلى الله عليه واله وسلم بإكرامها بقوله: «أكرموا عماتكم النخل»، كما قال فيها الكثير. ويظل دعاء الصائم عند الإفطار باقيا ما بقيت الحياة معتبرا التمر رزق الله الحلال من بين جميع الأرزاق «اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت».
وسطرت الأخبار عنها ما يصعب جمعه والإلمام بحصره، واشتهرت بها بقعة من بلاد العرب هي البصرة، التي قال فيها خالد بن صفوان التميمي، أحد حكماء العرب، مشيدا بتمرها للخليفة عبد الملك بن مروان: «نهرها العجب أوله الرطب وأوسطه العنب وآخره القصب، فأما الرطب الذي عندنا فمن النخل في مباركة الزيتون عندكم، في منابته هذا في أفنانه كذاك في أغصانه، هذا في زمانه كذاك في أبانه، من الراسخات في الوحل والمطعمات في المحل الملقحات بالفحل، يخرجن أسفاطا عظاما وأوساطا ضخاما ملئت رياطا. ثم يفلقن عن قضبان الفضة منظومة باللؤلؤ الأبيض، ثم تتبدل إلى قضبان بالذهب منظومة بالزبرجد، ثم ياقوتا أحمر وأصفر، ثم تصير عسلا في شنة من سحاء ليست بقربة ولا إناء، حولها المذاب ودونها الحراب لا يقربها ذباب مرفوفة عن التراب، ثم تصير في كيسة الرجال يستعان بها على العيال». ويذكر ياقوت الحموي في سياق كلامه عن تلك البقعة: «قال الأصمعي لما نزل عتبة بن غزوان الخريبة (البصرة القديمة) ولد بها عبد الرحمن بن أبي بكرة، وهو أول مولود من المسلمين فيها فنحر أبوه جزورا أشبع أهلها، وكان تمصيرها سنة 14 هجرية قبل الكوفة بستة أشهر. وغرس فيها نخلة قائلا: (هذه أرض نخل)، ثم غرس الناس بعده. وأبو بكرة هو نفيع بن سروح، من عبيد بني ثقيف في الطائف، جاءته كنيته عندما حاصر النبي، صلى الله عليه واله وسلم، الطائف. قال: أي حاصر نزل إلينا فهو آمن وأيما عبد نزل فهو حر، فنزل عدد كبير من عبيد أهل الطائف وفيهم نفيع الذي تدلى في بكرة فكنوه بها وأعتقه الرسول الكريم».
فأصبح للبصرة شأن كبير في أمور شتى منها شهرتها بالنخل، وفي «معجم البلدان» يقول ياقوت الحموي: «سمعت الأصمعي مرارا بقول: سمعت هارون الرشيد أمير المؤمنين: نظرنا فإذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغان ثمن نخيل البصرة». ومن جميل ما يروى أن الحمام المطوق (الفاختة) الموصوفة بحسن صوتها تعلن في صياحها عندما يطلع النخل «هذا أوان الرطب». ويقول زهير بن أبي سلمى:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة وتغرس إلا في منابتها النخل وقيل عن ضفاف شط العرب ونخلها:
والنخل حول النهر مثل عرائس نضت غدائرها على غدران والطلع من طرب يشق ثيابه متنشرا كتنشر الجذلان وقيل أيضا:
باسقات النخل في الطلع النضيد تتهادى كالعذارى في الحلى كل ذلك في البصرة وعن شط العرب، حيث كانت تمتد غابات النخيل فيها مسافة 173 كلم من القرنة إلى الفاو، بعمق يتجاوز أحيانا 10 كلم. قال عنها زكي مبارك، العلامة المصري الشهير، حينما زارها في ثلاثينات القرن الماضي: «لم أر في أسفاري، وهي كثيرة، غابات بهذه المسافات تنتج كل أشجارها فاكهة تؤكل». والواقع أنه كان المزروع منها يقارب المائة والعشرين ألف جريب، والجريب مساحته 4 آلاف متر مربع، وتزرع فيه بين 80 و100 نخلة، فيكون مجموعها نحو 11 مليون نخلة فاقت أصنافها 500 صنف، من أشهر هذه الأصناف موضوع بحثنا وهو.. البرحية أو البرحي.
ونخلة البرحي أصلها دقلة، وهي ضرب من النخل لا يعرف له اسم وينبت من نواة، وهو ما يطلق عليه محليا مسمى «غيباني»، أي من عالم الغيب. ولقد كان أول ظهور للبرحي في النصف الأخير من القرن الميلادي التاسع عشر في براحة بقرية كوت زيدان، من قرى أبي الخصيب في البصرة، ومن «البراحة» جاء اسم البرحي. وآل زيدان من ملاكي بساتين النخيل، وهم من ربيعة، نزحوا إلى البصرة من البغيلة في البحرين. (راجع: كتاب النخلة، للشيخ عبد القادر باش أعيان العباسي).
ظهر هذا «الغيباني» في أرض مستجدة من تل أزيح ترابه، فصارت أرضا فيحاء نبت فيها هذا الفسيل يزهو بسعفه وهيكله ومتناة جذعه. ولما اجتذب انتباه أصحاب تلك الأرض اعتنوا به ولاحظوه حتى آن وقت ثمره، فأعطى ثمرا جيدا، خاصة الرطب منه، الذي لم يسبق أن ذاقوا مثل طعمه، فأخذوا مباراته واعتنوا بفسائله وبتحويل غرسها في أوقاتها حتى تكاثرت عندهم، وأخذت شهرته بالانتشار لدى ملاكي النخيل وزراعها في بساتين البصرة. ومن ثم لم يبق مالك لم يزرع بستانه مقدارا كافيا منه لسد حاجته من الرطب. وتوسعت دائرة شهرته أكثر لتبلغ مناطق مختلفة من العراق وما جاوره من بلدان وأصقاع قريبة وبعيدة، بدأ يزرع فيها، إلى أن وصل إلى وادي كواجيلا في جنوب شرقي ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية حيث أصاب شهرة عظيمة. أما عن قصة انتقال البرحي إلى القصيم، في قلب الجزيرة العربية، فوردت في «معجم بلاد القصيم» – الجزء الأول، ص 105 - 117، ومختصرها أن عبد الله بن محمد البسام هو أول من أحضر فرخين (أي فسيلين) من البصرة وجعلهما في زنبيل - وهو وعاء مسفوف من خوص سعف النخيل – وحملهما على ظهر بعير وجعل يسقيهما طوال الطريق حيث كان معه الماء اللازم. فلما غرسهما في مزرعته «المويهرية» بعنيزة مات فسيل منهما وعاش الآخر، فكل ما في عنيزة آنذاك بحدود عام 1310هـ- 1893م كان منه. ثم عرف الناس فائدة البرحي، ورغبوا في غرس المزيد منه ولما لم يجدوا ما يكفيهم أخذوا يجلبونه من البصرة.
ويضيف صاحب «تحفة المشتاق في أخبار نجد والعراق»، ص 347 «أن آل بسام غرسوا في مزرعتهم في عنيزة فسيلا من صنف آخر من البصرة أيضا من نوع السكري عام 1905».
هذا، ومن المؤكد أن تكون عملية نقل البرحي في سفرة طويلة على ظهور الإبل من البصرة إلى عنيزة، التي تستغرق عادة ما يقارب 3 أسابيع في أحسن الأحوال، من الأمور الشاقة، إذ يبلغ وزن الفسيل بين 10 و20 كلغ، وأما قطر جذعه فبين 16 إلى 35سم، كما أن حاجته إلى الإسقاء المستمر تتطلب كمية كبيرة من الماء، خصوصا أن فترة نقله بعد قلعه تحين في منتصف الصيف ليتسنى زرعه في أواخره، وهي الفترة المفضلة.
وتحتاج زراعة فسائل البرحي إلى مساحة أكبر من تلك التي تتطلبها أنواع أخرى من النخيل، التي تكون غالبا بحدود 7 أمتار، بينما لا بد للبرحي من 10 أمتار كبعد يفصل بين واحدها والآخر. ولا بد أن يكون الفسيل قد اجتث في منتصف الصيف – في يوليو (تموز) - لكي يزرع في نهاية أغسطس (آب) لانكسار حرارة الصيف، ويسقى الفسيل بعد غرسه يوميا لمدة 3 أيام متتالية، وبعدها مرة واحدة كل 3 أيام لمدة شهر كامل، ومن ثم مرة أسبوعيا إلى أن تخرج قلبته – أي سعفة في وسطه – وهو دليل ثباته، ويطلق عليها محليا مسمى «دفع الفرخ»، أي امتدت عروقه.
في البصرة كانت تسقى مزارع النخيل تلقائيا من خلال عملية المد والجزر لأنهارها مرتين كل 24 ساعة. ويعطي الفسيل أول حمله بعد نحو 4 سنوات، وأكثر إنتاجه يأتي عند بلوغه الـ15 سنة ويسمى حينذاك «النشوة»، ويستمر بالعطاء إلى أكثر من 50 سنة. هذا بالنسبة للنخيل المزروع من الفسيل، أما نخيل النوى فيعطي ثماره عموما في مدد تتراوح بين 12 و20 سنة.
بقي هنا أن نشير إلى أمرين اثنين: الأول أن البرحي لقبه البعض بـ«المارون غلاسيه»، وهي حلوى فرنسية شهيرة لذيذة الطعم وغالية الثمن، تصنع من منقوع مجمد الكستناء بالعسل، ولقد انتشرت واشتهرت في فرنسا في نفس وقت انتشار البرحي، وتتشابه من حيث طعمه اللذيذ به. وبلغ من لذة طعم البرحي أن وصفه أحد الأدباء حين سئل عنه «ثمرنا جرد فطس – أي ناعم معتدل الحجم – يغيب فيه الضرس، كأن نواته ألسن الطير، تضع الثمرة في فيك فتجد حلاوتها عند كعبيك».
والأمر الآخر الذي يجب إيضاحه عند ذكر نقل البرحي إلى القصيم يشار إلى العقيلات نسبة إلى قبيلة واحدة، وهو اصطلاح أطلق على بعض أصحاب القوافل العاملة بين القصيم والعراق وبلاد الشام نحو القرن الميلادي السابع عشر. ولكنه عمم خطأ على الهجرة النجدية لتلك الأقطار عبر فترة زمنية طويلة انتقلت فيها قبائل كبيرة برمتها، إضافة إلى أعداد كبيرة من الحضر وأهل البادية، استقرت ثم انتقلت إلى مناطق أخرى حسب الظروف المتاحة، وهم حتما ليسوا عقيلات بانتمائهم لقبيلة واحدة، كما أن أهل القصيم ليسوا عقيلات كلهم، وإضافة إلى ذلك هناك تسمية عقيلات لعشائر كثيرة من قبائل كبيرة، وهي بالتالي لا تعني قبيلة واحدة بعينها، وهو بيت القصيد.
خاص لعيون البصراويين