.
انّ العالم المتحضّر اليوم ، بماله من ظاهر جميل ، والذي لا زال كل يوم يعرّف المجتمع البشري بآفاق جديدة . . قد ابتعد عن محور حقائق الحياة بمقياس واسع وهو بمنطقة المبني على أساس أصالة المادة والثروة ، يتنكّر لثبات القيم في المجتمعات الانسانية . وان كيفية التربية الفكرية والروحية للناس في كل من المعسكرين العالميين ( ان كان لا يزال هناك معسكران ) بحيث يجعلهم في غفلة عن المعاني الخالدة . فالانسان الذي كان دائماً وعلى أساس خصائصه الذاتية الباطنية قد حدّق النظر ليبصر عالم المعنى ، عطف التفاته اليوم الى العالم المادّي السيّال ، وأخذ يتلقى الجانب المعنوي للطبيعة وحقيقة نفسه الملكوتية وكأنها مزاعم موهومة ، ولهذا فقد أصبح الربح واكتناز الثروة والرفاه المادي غاية الامال لكل الرجال تقريباً . ومع هذا الاسلوب من التفكير الذي يسود العلاقات الفردية والاجتماعية وبشتّى الاشكال والصور لا ينبغي لنا أن ننتظر السعادة الحقيقية للبشرية ، الاّ ان تتكسّر هذه الاصنام المختلقة بيده ، ومع تغيير الجو الفكري يبدأ الانسان مرة اُخرى يبحث عن الهة الحق .
نحن لا ننكر النمو التقني ، وسرعة الاتصالات ، وكل التسهيلات والامكانات التي أهدتها الينا هذه الحضارة الحاضرة ، وانّ فوائدها ومزاياها مما لا يمكن لاحد ان يغض عنها النظر والبصر ، ومن هنا امّنت البشرية لنفسها شروطاً أفضل للحياة . . . ولكننا لا يمكننا أيضاً ان
نغضّ النظر عن حقيقة كبرى هي ان روح الانسان تجد نفسها أمام حقيقة كبرى لا نهاية لها ،
وأن تبديل سعادة الانسان المعنوية الى صرف رفاه مادي لا يمكنه أن ينسي الانسان لمدة
مديدة حاجته الماسة والعميقة الى راحة الضمير والطمأنينة وأن ينسى أهمية الدين ورسالته الكبرى وأن يغفل عما هو بحاجة اليه حاجة ذاتية .ان المدارس الاجتماعية لعصرنا الراهن بالرغم مما لها من دعاوي تقدمية وانسانية ، بعد أن أشعلت حريق حربين عالميّين وقتلت الملايين بكل قسوة وبلا رحمة . . . لم تجد بعد لدرء خطر مماثل آخر أيّ طريق معقول ، ومن الممكن أن تستعر أورا حرب اُخرى مرة اُخرى بأية محاسبة خاطئة عسكرية أو سياسية ، فتخرج نفس هذه الوسائل الموحشة النارية المشبعة بالقوة السرية الذرية عن الانضباط بيد المسوولين عنها ، فتحترق البشرية بنارها التي هي اجّجتها واشعلتها ، وتنعدم بالكلّية .
ومن المؤسف ان الامم الشرقية ولسنين طويلة أخذت تشعر أمام النهضة الصناعية والتقدم التقني والتفوق الاقتصادي الغربي بحقارة وانبهار ، بحيث افتقدت كل قواها الروحية المبدعة وأصبحت كمجتمع طفيلي لا روح له ، يخضع ويذعن لكل ما يدخل عليه من أبواب الغرب ، وبعذر جبر التاريخ أو ضرورة العصر . وهو (هذا المجتمع الشرقي) لا معرفة له بهذه الحضارة الحديثة من الناحية الفكرية والثقافية ، فهو لا يدرك تلك الضغوط النفسية والفراغ الروحي الذي يواجهه الغربيون ، فهو يزعم أنّ عليه أن يسلّم كل ما لديه من حقائق خالدة وأبدية لهذه الموديلات الفكرية والميول العصرية ، مهما كانت هذه الميول غير اُصولية وأسلوباً غلطاً وغير منطقي في التفكير .
ولا ريب في ان المجتمع الذي يشعر في نفسه بالضعف والمهانة ، فهو وبتأثير من هذه العقدة المميتة لا يبدأ ـ لتجديد حياته وجبر ضعفه وتأخّره ـ بأيّ سعي ومحاولة . ولا سبيل الى احياء الاستقلال الفكري والروحي في الناس سوى احياء القيم الانسانية وتعبئة كل الامكانات لهذا الغرض بالذّات .