الدنيا لا تأتي على مقياس الأمنيات .. تغري بالدلال فتميل حتى إذا مالت الأنفس معها أسقطت الأنفس دون أن تسقط هي ثم عادت لدلالها .. وإذا أقبلت العيون عليها ابتعدت عنها بقسوة ونفـره .. وإذا أغفلت العيون عنها بادرت بالغزل والاقتراب .. حتى إذا كانوا منها على غاب قوسين أو أدني جمحت كالمهر المراهق .. والذي يرى السعادة فيها يراها مسحوبة بشـك دون اطمئنان .. ويدرك أنها مؤقتة ومعقبة بمرارات الزوال .. والذي يعاني فيها يراها عارية على حقيقتها .. وهي لا تعرف الإخلاص إلا للخلاص .. تحتضن من تريد بنية غدر فتشد الأحضان حتى تكسر الأضلع .. فالذي في أحضانها أكثر شقاءً من ذاك الذي يتمنى أحضانها .. تلك هي الدنيا التي لا تسوي عند الله جناح بعوضة .. ومع ذلك فكم تشغـل الأنفس وتدخلها في متاهات المكابدة منذ مطلع الشمس وحتى مغربها ثم تكمل الإشغال بليلها .. بوتيرة حتى تفني أعمارها .. والذي يرحل منها يعلم حقيقتها بعد فوات الأوان .. والذي يقدم إليها لا يتعظ بمرارات من سبقوا في التجربة .. بل يجتهد في نيل الدنيا تلك التي لا تكون وفية لأحـد .. والدنيا إذا أبت قد تكون ضمن الحكمة ( رب ضارة نافعة ) .. وإذا أقبلت قد تكون ضمن حقيقة الآية :
{ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
ومع ذلك فإن فطرة المخلوقات من الأحياء جبلت على السعي والركض .. فتلك سنة كونية لمداومة السيرة الحياتية .. فلا يجوز الزهد في الدنيا لدرجة الانتحار وقطع الحياة .. كما لا يجوز الركض خلف الدنيا بالكليات التي تنسي حقيقة أن الدنيا دار ممر وليست دار مقر .. يجتهد اللبيب فيها بالقدر الذي يمكنه من أداء رسالة الغاية من خلق الجن والإنس وهي ( ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) .. ثم ينال من نعيم الدنيا بالحلال المباح المتاح .. ويزهد كلياً في الحرام المتاح وغير المتاح .. ولا يطمئن ويفرح كثيراً لنفحات الدنيا إذا أقبلت .. ولا يحزن ويتألم من تكشيرات الدنيا إذا أدبرت .
( تــلك هـي الدنيــا ) .